كان عليه الصلاة و السلام يستفتح كلّ خطبة بقوله ( نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيّئات أعمالنا ) فما ذكر غير شرّ النفس و سيء العمل رغم مكانته صلى الله عليه و سلّم و رغم ما هو عليه من الصفاء و العلم و الفهم و الفناء و البقاء و النور و الصدق و العزم و الحزم بل رغم جماعه لجميع مقامات القرب و أحوال الصدق بل و رغم كتابة إسمه على العرش إلى ما هنالك من أنه سيّد ولد آدم و من أنه أول من تنشقّ عنه الأرض و أول من يدخل الجنّة بل و مفتاح الجنّة بيده و هو الذي يفتحها و رغم أنه أكرم العالمين على الناس و أنه خاتم الأنبياء و المرسلين و سيّدهم بل و رغم إمامتهم بهم الى ما هنالك من الحقائق المحمدية و الشمائل النبوية و رغم هذا و ذاك فكان يستفتح خطبته بقوله ( نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيّئات أعمالنا ) و قد قال الله له : ( يا أيها النبيّ إتق الله ) و قد ورد أنه كان عليه الصلاة و السلام يستغفر الله كلّ يوم سبعين مرّة و في رواية مائة مرّة
أما الملائكة فقد ورد أنهم يرفعون رؤوسهم يوم القيامة فيقولون : ( سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك ) رغم عصمتهم و عبادتهم التي لا نهاية لكُنْهِها قال تعالى في حقّهم : ( لا يفترون ) أي عن الذكر و التسبيح و التحميد و التمجيد
فالله تعالى -يا أخي- من حيث حقائق ربوبيته و عظمة ألوهيته لا يحسن مخلوق في الوجود أن يعبده حقّ عبادته و هذا ظاهر في قول الملائكة ( سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك ) قال تعالى : ( و ما قدروا الله حقّ قدره )
أما الصالحون من آل البيت و الصحابة فحدّث و لا حرج فإنهم لم يبلغوا مبالغ النبيئين و المرسلين في العبادة و الإخلاص و النور و الصفاء و العلم و الفهم فكلّ منهم متّهم لتقصيره و قلّة حيائه من ربّه و بعده عنه
ثمّ إعلم -أخي- علّمني الله و إياك أن سيدي إبن عطاء الله السكندري رضي الله عنه قد تكلّم في موضوع عِلَل العبادات و المعاملات في كتابه الحكم و أوضح فيه كلّ ما يخصّ الفقير و يحتاجه في السَّيْر و السلوك مع العلم بأنه لا يستغنى بكتاب الحكم عن مصاحبة شيخ التربية أبدا أبدا ، لأن الكتب التي تشرح مراحل السير غاية ما يناله منها الفقير البصيرة العلمية و لا ينال البصيرة اليقينية إلا بصحبة المشائخ و هذا ما لا ريب فيه و لا محيد عنه و قد قيل : ( و الله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح ) و ممّا وقع لهذا الفقير في مستهلّ دعواه و شطحات شيطانه و هواجس نفسه و سوء أدبها أنني كلّما ذهبت لأحد من العارفين بأمراض النفس و عيوبها كان يرجعني الى معرفة قدري حتى أجزم في بعض الأحيان أنني من أهل النار و و الله يا أخي لو تسألني الآن عن حالي لأقسمت لك بأنني من أهل النار أعاذنا الله منها فمن نحن يا أخي حتى ندّعي الثبات على الطاعة و العبادة فيدخلنا الغرور و بماذا نغترّ و على من نغترّ و هذا رسول الله صلى الله عليه و سلّم يقول ( لن يدخل أحدكم الجنّة بعمله قالوا و لا أنت يا رسول الله قال و لا أنا إلا أن يتغمّدني الله بواسع رحمته ) فأنظر قولهم ( و لا أنت يا رسول الله ) لِعِلْمهم بأنه صلى الله عليه و سلم كما قال تعالى ( أول العابدين ) لأنه ( رحمة للعالمين ) فأفهم
وقد قرأنا جميعا قصة ذلك الراهب الذي عبد الله تعالى ستمائة سنة ثمّ طلب من الله تعالى أن يدخل الجنة بعمله ...إلخ
فالغرور بالثبات على الطاعة دليل على شهودها من النفس صادرة و قد قلت في شرح الحكم العطائية ( متى رأيتَ أعمالك بالتي توصلك اليه ، فلأنّك شهدتها من نفسك صادرة ، و أنّها بكثرتها أضحت عندك قادرة)و قلت : ( لو كان ما أورده عليك من التعرّف مقابلا لأعمالك ، لما أورد عليك شيئا ، اذ أن عملك صادر من لؤم أوصافك ، و ما أورده عليك من جود أوصافه ، و أين أوصافك من أوصافه حتى تكون الأعمال توصلك اليه ، أو تقبل في وصفها بين يديه )
و قلت : (الأعمال متى سَرَتْ فيها أنوار محبّتك ، و روح شكر نعمتك ، جذَبَتْها أوصافه اليه ، و زيّنَتْها بنورها هديّةً بين يديه )الى غير ذلك ، فأرجع إليه في محلّه كما أوصيك بالرجوع الى شرح الحكمة الأولى من الحكم بشرح سيدي إبن عجيبة الحسني رضي الله عنه فقد أجاد في ذلك و أفاد و بيّن غاية المراد و كذلك إقرأ شرح الحديث النبوي كشرح الإمام العسقلاني له في كتابه فتح الباري بشرح صحيح البخاري الى غير ذلك من كتب أهل الله و العلماء العاملون
بهذا و غيره تقلّ أعمالنا في نظرنا بما نراه من جلائل الأعمال التي كان عليها الصالحون من الصحابة و غيرهم من العلماء و المجاهدون و الدعاة الى الله تعالى فأين نحن منهم حتى نغترّ بأعمال طاعاتنا و عباداتنا فهم أولى بالغرور منّا في هذه الحالة و حاشاهم من ذلك لأن الغرور من صفات النفس و الشيطان ( و الله لا يحب كلّ مختال فخور ) و الموضوع في هذا الجانب مترامي الأطراف و لكن قيل سابقا ( عاش من عرف قدره و وقف عند حدّه و نزل دونه )
أرجو أن أكون قد ساهمت في الإجابة بقدر ما أنا عليه أيضا من ذلك الحديث النفسي عافانا الله من ذلك و حفظنا بما حفظ به عباده الصالحين آمين آمين آمين يا رب العالمين
و صلى الله و سلم على الحبيب و آله
حفظنا الله واياكم شر الغرور .. وإن كان بعض السالكين قد يغتر بكثرة الطاعات والثبات عليها فما بالنا بمن يغتر بشقشقة اللسان وبديع البيان فيعتقد أنه صار بهذا من أولي العرفان !! اللهم نقنا ورقنا بجاه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم
***
فليعلم اخواني كلا قدره وليتعظ
من كلام سيدي علي الصوفي